بن غفير والقدس- تسريبات تكشف مخططات إشعال المدينة المقدسة وتقويض الوجود الفلسطيني

المؤلف: د. عبد الله معروف10.02.2025
بن غفير والقدس- تسريبات تكشف مخططات إشعال المدينة المقدسة وتقويض الوجود الفلسطيني

لا تزال ارتدادات التسريبات التي كشفت عنها القناة الثالثة عشرة الإسرائيلية، والمتعلقة بمساعي بن غفير لتأسيس ميليشيات خاصة وإشعال فتيل التوتر في القدس، فضلًا عن تدخلات زوجته في شؤون الدولة، تثير جدلًا واسعًا وتلقي بظلالها على الساحة السياسية والإسرائيلية.

هذه التسريبات، بالإضافة إلى ما سبقها من تسريبات سموتريتش قبل ستة أشهر بشأن مخططات ضم الضفة الغربية، أكدت بما لا يدع مجالًا للشك سعي بن غفير وتيار الصهيونية الدينية بشكل عام إلى فرض سيطرتهم المطلقة على مفاصل الدولة، وتقويض المؤسسات القائمة التي تعارض رؤيتهم التوسعية الرامية إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان في غزة، وبالتالي حسم الصراع الدائر بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وذلك عبر إفراغ المنطقة من سكانها الفلسطينيين.

التسريبات كانت جزءًا من تحقيق مطول عرضته القناة، وتناول جوانب عديدة مظلمة من ممارسات بن غفير في الوزارة، وتدخلات زوجته في التعيينات والإقالات داخل جهاز الشرطة، إضافة إلى قضية تسليح المستوطنين والطرق المتبعة في ذلك، وغيرها من المسائل الحساسة. وقد أثار هذا التقرير عاصفة من الانتقادات والغضب في الرأي العام الإسرائيلي، ما دفع المستشارة القضائية للحكومة إلى التدخل ومطالبة رئيس الوزراء بإقالة بن غفير.

لن نتطرق إلى كافة تفاصيل التسريبات هنا، بل سنركز بشكل خاص على ما ورد فيها بشأن القدس، حيث كشفت التسريبات عن أن بن غفير وفريقه المقرب يسعون بشكل متعمد إلى إحداث حالة من الاضطراب وإشعال الأوضاع في مدينة القدس، بهدف اتخاذ إجراءات قاسية ومتطرفة تستهدف الوجود الفلسطيني في المدينة، وتحديدًا المسجد الأقصى المبارك، الذي يمثل النقطة المحورية للصراع في المدينة المقدسة.

ولعل أخطر هذه الإجراءات وأكثرها تطرفًا يتمثل في جر الجيش الإسرائيلي إلى التدخل في شؤون القدس وتنفيذ عمليات داخلها، وهو ما يخالف القانون الإسرائيلي الذي يمنع الجيش من العمل داخل القدس باعتبارها جزءًا من الأراضي الإسرائيلية غير المحتلة.

وهذا يختلف تمامًا عن الوضع القانوني للضفة الغربية وقطاع غزة في نظر دولة الاحتلال، حيث أعلنت إسرائيل ضم القدس الشرقية – باستثناء سكانها – بعد احتلالها عام 1967، وهو وضع يختلف جوهريًا عن الضفة الغربية وقطاع غزة اللذين أبقتهما تحت السيطرة العسكرية للجيش الإسرائيلي باعتبارهما أراضي محتلة عسكريًا.

وبذلك أصبحت القدس في القانون الإسرائيلي جزءًا لا يتجزأ من الدولة، كمدينة تل أبيب، ولا يتدخل الجيش فيها في الظروف الاعتيادية، حيث يقتصر عمل الجيش على المناطق الواقعة خارج نطاق سلطة وزارة الداخلية الإسرائيلية.

ولعل هذه النقطة تغيب عن الكثيرين في الشارع العربي والإسلامي، الذين يرون أحيانًا جنودًا مسلحين يرتدون زيًا أخضر اللون في القدس، فيظنون أنهم من الجيش، والحقيقة أن هذا الزي يعود إلى جهاز خاص ضمن شرطة الاحتلال يُعرف بقوات "حرس الحدود"، وهو أحد الأجهزة التابعة لوزارة الداخلية، وبالتالي يختلف عمله وعتاده عن قوات الجيش الإسرائيلي التابعة لوزارة الدفاع.

وهذا يكشف عن محاولات بن غفير لخلط الأوراق وإحداث حالة من الفوضى بين الأجهزة الإسرائيلية المختلفة، بين وزارة الدفاع ووزارة الداخلية، وهو ما يسعى إليه في القدس.

ما أثار استياء الرأي العام الإسرائيلي في هذا الجزء من التسريبات، وأثار الكثير من الجدل، هو أن هذه المحاولات تصدر عن وزير الأمن القومي المسؤول عن الشرطة، والذي يفترض به الحفاظ على الأمن والنظام العام والهدوء في البلاد.

وهذا بحد ذاته دليل قاطع على مدى الانحدار الذي وصلت إليه المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية، التي باتت تتعامل مع السياسة الداخلية والخارجية بمنطق الميليشيات، وليس بمنطق الدولة "المتحضرة" الذي طالما تغنت به إسرائيل على مدى ستة وسبعين عامًا.

الشخصيتان اللتان ظهرتا مع بن غفير في التسريب هما حنمال دورفمان، القيادي في حزب (العظمة اليهودية) الذي يرأسه بن غفير، وبنتزي غوبشتاين، زعيم منظمة (لاهافا) المتطرفة. وكان غوبشتاين تحديدًا هو الأكثر إثارة للغضب، إذ لا يشغل أي منصب سياسي رسمي، فهو ليس عضوًا في الكنيست ولا يمثل حزبًا سياسيًا، بل هو زعيم منظمة متطرفة تتبنى أفكار الحاخام المتطرف المصنف على قوائم الإرهاب مائير كاهانا، واسمها "لاهافا" وتعني "اللهب"، وهي اختصار لعبارة "منع الذوبان في الأرض المقدسة"، التي تهدف إلى الحفاظ على "النقاء العرقي اليهودي" في الأراضي الفلسطينية.

هذه المنظمة التي تأسست عام 2005 غير مسجلة رسميًا في إسرائيل، وتعتبرها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تنظيمًا غير رسمي للمستوطنين، وكانت المسؤولة المباشرة عن أحداث هبة باب العامود في القدس عام 2021، عندما أصرت على اقتحام منطقة باب العامود مرددة هتافات "الموت للعرب"، مما أدى إلى إطلاق الصواريخ من غزة على القدس وإعلان فصائل المقاومة الفلسطينية معركة "سيف القدس" التي عمت الأراضي الفلسطينية.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في الأوساط الإسرائيلية: ما الذي يدفع وزير الأمن القومي المسؤول عن أجهزة الشرطة وإنفاذ القانون إلى التباحث مع زعيم منظمة إرهابية متطرفة حول سبل جر جيش الاحتلال إلى العمل في القدس؟ إلا إذا كان بن غفير نفسه يعتبر نفسه جزءًا من هذه التنظيمات الدينية المتطرفة قبل أن يكون وزيرًا في هذه الدولة.

لذلك، رأت الدولة العميقة في إسرائيل، التي لا تزال تقاوم محاولات تيار الصهيونية الدينية للسيطرة على الدولة بشكل كامل، في هذه التسريبات فرصة للتخلص من بن غفير إلى الأبد.

وهذا ما دفع المستشارة القضائية للحكومة إلى مهاجمة بن غفير بشدة ومطالبة نتنياهو بإقالته، الأمر الذي دفع بن غفير إلى إعلان الحرب على المستشارة القضائية والدعوة إلى إقالتها، ووضع نفسه وتياره في كفة، في مقابل وجود المستشارة القضائية في الكفة الأخرى، مهددًا نتنياهو بأنه "إما بن غفير، وإما المستشارة القضائية".

هذا التصعيد الحاد بين الطرفين هو أحد أبرز المؤشرات على الفوضى السياسية العارمة التي تعيشها إسرائيل اليوم في ظل حكومة نتنياهو. فمن الواضح أن نتنياهو على الأرجح لن يضحي ببن غفير – على الأقل في الوقت الحالي – لصالح المستشارة القضائية، وذلك لأنه متورط بدوره في محاولة الانقلاب القضائي التي سبقت عملية طوفان الأقصى عام 2023.

وقد يرى نتنياهو في هذه الأحداث فرصة لتحقيق الانقلاب الذي كان يحلم به على الأجهزة القضائية، وإحكام سيطرته على الدولة، وبالتالي تسليم دولته لسموتريتش وبن غفير على طبق من ذهب، وهو ما لا يمانعه على الأرجح، طالما أن الثمن هو بقاؤه في السلطة بما يضمن عدم دخوله السجن.

ولو نجحت مساعي المستشارة القضائية في إقصاء بن غفير، فإن سموتريتش بدوره سيفقد نصف قوته، وقد يدفع ذلك إلى اتخاذ إجراءات متطرفة كالانسحاب من الحكومة وإسقاطها، وهو ما لا يريده نتنياهو.

من ناحية أخرى، يجب الانتباه إلى أن هذه التسريبات، وخاصة تلك المتعلقة بالقدس، تشير بوضوح إلى نية حقيقية لدى بن غفير وتياره للمضي قدمًا نحو مواجهة حتمية مع المقدسيين، ولا يجدي المقدسيين محاولة تجاهل هذا الأمر، أو ادعاء البعض بضرورة عدم إعطاء بن غفير "ذريعة" لشن حملة غير مسبوقة في المدينة تستهدف ترحيل سكانها بشكل نهائي.

ففي التسريبات يظهر أن غوبشتاين يطلب من بن غفير البحث عن أي قطعة سلاح في القدس الشرقية، ويؤكد له أنه سيجد ولو قطعة واحدة (يمكن لأي شرطي أو مستوطن زرعها في أي منزل فلسطيني في القدس)، لإعلان حالة الطوارئ وإشعال الأوضاع في القدس، لإجبار الجيش على التدخل والعمل في القدس ضد السكان الفلسطينيين، حسب التسريبات، مما يؤدي إلى اقتلاع الفلسطينيين نهائيًا من القدس وتفريغها منهم.

هذا التوجه يعكس العقلية المتطرفة التي يحملها بن غفير وغوبشتاين، ومن معهما في تيار الصهيونية الدينية، فهم لا يحتاجون إلى ذريعة، لأنهم إن لم يجدوا ذريعة فسيخترعونها.

الخلاصة التي يجب على المقدسيين استيعابها من هذه التسريبات هي أن المواجهة في القدس أمر حتمي وقادم لا محالة، وعلى أهل القدس – بدلًا من السعي لتجنب هذه المواجهة – الاستعداد لها نفسيًا ومعنويًا ومن جميع النواحي، فهذه المواجهة إذا وقعت في القدس، كما يخطط بن غفير وغوبشتاين، فلن تكون مثل المواجهات السابقة، بل ستكون مواجهة وجودية عنوانها "أكون أو لا أكون".

فمصيرها في النهاية سيكون أحد أمرين: إما ردع الاحتلال بقوة شعبية غير مسبوقة تعتبر مقدمة لانهيار الوجود الاحتلالي في القدس برمته، وإما تفريغ القدس من سكانها المقدسيين بشكل نهائي.

هذا الأمر إذا حدث، لا قدر الله، فسيكون ثمنه باهظًا جدًا، ولن يتوقف عند سيطرة الاحتلال على المسجد الأقصى والقدس بالكامل، بل سيمتد إلى إفراغ الضفة الغربية بأكملها، فالقدس هي المعادلة الأصعب، والاحتلال يعتقد أنه إذا تمكن من هزيمة المقدسيين وحسم المعركة في القدس، فإنه سيتمكن من حسم المعركة في الضفة الغربية، بل وفي المنطقة بأسرها.

لسنا بحاجة إلى نسخة فلسطينية من إسحاق بريك "نبي الغضب" الإسرائيلي للتحذير من القادم، ولكننا بحاجة إلى فتح أعيننا وآذاننا جيدًا لما يجري حولنا، وتحليل كل كلمة يقولها وكل خطوة يخطوها أتباع تيار الصهيونية الدينية الذين يحكمون إسرائيل اليوم، لأن كل كلمة يقولونها تحمل في طياتها وقائع ملموسة.

دعونا نتذكر أننا لا نتعامل هنا مع ساسة محنكين أو مخططين استراتيجيين، وإنما مع حفنة من المتطرفين المتهورين المهووسين دينيًا الذين أقنعوا أنفسهم بأنهم يعيشون في زمن المعجزات التي يجب استغلالها إلى أقصى حد، ولا يردعهم عن هذه التوجهات الجنونية إلا الردع الجماهيري الذي يجب أن يعيدهم إلى صوابهم، وإلا تحولت أحلامهم إلى واقع مرير على الأرض.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة